الدرباسية ماضياً وحاضراً
كان يتباهى بأنه قد جمع معلومات كثيرة عن مدينته التي يعتز بها ويفتخر، ويعمل على تدوينها وتبويبها وإعدادها للنشر، ولكن الموت عاجله، فبقي كتابه مخطوطاً حتى بعد وفاته، في 5/تشرين الثاني/2007، فطلبت عائلته من صديق عميد الأسرة ووالدهم نيافة راعي الأبرشية بأن ينفذ وصية والدهم المرحوم ابراهيم يامين، ويطبع الكتاب الذي فعلاً صدر بالطبع في أواخر سنة /2009/ عن دار ماردين ـ الرها للنشر في حلب، وجاء في مقدمة الكتاب ما يلي :
الـمـقـدمـــة
غريغوريوس يوحنا ابراهيم
متروبوليت حلب
هذا كتاب مميز لأكثر من سبب، أولاً : مؤلفه الراحل العزيز ابراهيم يامين كان يحلم أن يفرغ ما في جعبته من أخبار دارت في الدرباسية والقرى المجاورة لها، وخاصة في القره مانية، في مقال أو كتاب تخليداً لتلك الأحداث، وذلك في وقت لم يكن أحد يفكر في تسجيل الوقائع والأحداث التي جرت في تلك البقعة من أرض الجزيرة السورية الغالية علينا جميعاً. وعلى بساطتها تبقى تفاصيل تلك الأحداث أخباراً مهمة، لأنها تؤرخ لزمن، معظم رجالاته قد غادروا الحياة. فالمرحوم ابراهيم يامين نفسه، كان من مواليد ماردين /1920/ وكتب ما عرفه قبل هذا التاريخ وخلاله وبعده، وبقي مرتبطاً بالدرباسية وأحداثها ورجالاتها، ومديناً لشخصيات عرفها في حياته بينها : العربي والكردي، المسيحي والمسلم، وفي مقدمته الوجيزة جداً يُشير إليها فيقول : أن أكتب تاريخ هذه المدينة خدمة لأهاليها، حتى يحفظوا في قلوبهم محبتها، الكبار والصغار التي هي مسقط رأسهم، وترعرعوا فيها، واشتغلوا فيها، مستفيدين من موقعها الجغرافي العليل، ويفتخروا أنهم من الدرباسية بلد الشموخ، والمضياف، والكريم، وأهلها أصحاب شهامة، وكرم ضيافة، ومحبة القريب.
ثانياً : إن بعض المعلومات الواردة في هذا الكتاب هي نادرة، منها : أسماء من انتقل من القره مانية إلى الدرباسية، والعشائر التي طوّقت الدرباسية، الكردية والعربية على السواء، ثم رأي خاص في الزراعة والمزارعين، وإلقاء الضوء على بعض الصفحات الأليمة في الدرباسية. وعندما يكتب عن تجانس الشرائح والأطياف التي تنتمي إلى الأديان والمذاهب والأثنيات المتنوعة والمتعددة، يرى القارئ بوضوح كيف أن نفسه السمحة تتحدث عن هذا الحوار اليومي بين كل الفئات. ولكن قبل الدرباسية والقره مانية، وفي لفتة أخرى منه إلى أهمية الخلفيات التاريخية للشرائح والأطياف، يعود إلى الوراء، فيتحدث عن بعض القرى التي نزح إليها أهالي ماردين وعددها يفوق على الثلاثين. ثم يكتب عن ماردين ذاتها، ونصيبين المجاورة لها، وعن المدن التي تشكّلت منها مدن الجزيرة مثل : ماردين، ودياربكر، وطورعبدين، وآزخ، ونصيبين، والقرى التابعة لها، وأورفا، وديركه. فالقارئ عندما يريد أن يتعرف على الخلفيات الثقافية والاجتماعية والتاريخية لمن نزح إلى الدرباسية وقراها، يجب أن يعود إلى المعلومات الواردة في صفحات هذا الكتاب، الذي أيضاً يتوقف عند الحسكة، ونهر الخابور، وسنجار، وعامودا، والمذبحة التي جرت فيها، والحريق الشهير الذي وقع فيها سنة /1937/، وحتى حريق سنة /1959/، وهنا يذكر كاتب هذه الكلمات عندما كان عمره عشر سنوات ونيف، قد سمع بهذا الحادث الأليم، وكان عدد الضحايا يومئذٍ يزيد على المئتين من أطفال المدارس. ولكي يكمل مشوار المعرفة يتطرق إلى : الرقة، والرافقة، وعين العروس، وعين العرب، وجرابلس، ورأس العين، وعرادة، وتل حلف، ودير الزور، ومركدة، وأبو كمال، ومنبج. ثم ينتقل إلى موضوع كيف وصلت اللغة العربية إلى الجزيرة الفراتية، وما وقع معه من حادث سنة /1948/ ويفصّله، لأنه كان يعتقد أن خلفيات هذا الحادث بقيت مطوية.
وأفرد صفحات للخوري يوسف رزقو قبل أن يتحدث عن القره مانية بشكل مفصّل أيضاً، وكيف انتقل أهلها إلى الدرباسية. ثم بلدة الدرباسية بالذات من سنة /1931 ـ 1941/. وفي فصل آخر من سنة /1941 ـ 1951/، ويختم كتابه عن كيفية بناء الدرباسية.
كل هذه المعلومات التي أوردها المرحوم ابراهيم يامين في كتابه : الدرباسية ماضياً وحاضراً، لو لم يكتبها لبقيت في عالم النسيان.
كانت تربطنا علاقة طيبة به منذ رسامتنا مطراناً على حلب في 4/آذار/1979، وعرفنا فيه محبة فائقة الوصف للسريان والسريانية وآدابها وتراثها وآبائها، وبما أنه درس في معهد مار يوحنا الحبيب في الموصل، كانت له علاقة وطيدة مع الكنيسة، وكان يحلم أن يرى جناحي الكنيسة السريانية موحّداً، وأن يعود السريان بصفاء إلى ماضيهم المجيد، فيقدموا صفحات من العطاء للشرق والإنسانية كما فعل آباؤهم وأجدادهم عبر تاريخهم الطويل، وكان يقول : إن حلب كأبرشية أصبحت سبب انقسام السريان إلى مذهبين، وحلب اليوم تستطيع أن تعمل في سبيل رأب الصدع، وإعادة اللحمة بين كل السريان. وبكل جرأة كان يتناول المواضيع التي يستخدمها كمواد في حديثه في المجتمعات.
كان لبقاً، يحب الناس من كل الأطياف والأديان والمذاهب، كريماً، صادقاً، ويعرف كيف يبني جسوراً بينه وبين الآخر، ونظراً لمعارفه الواسعة ومعرفته لكثير من الأمور كان يبرز في مجتمعه كمتحدث ناجح، ويفرض احترامه على كل من عرفه ويعرفه.
وُلد ابراهيم يامين في ماردين / تركيا سنة /1920/، من أبوين منتميين لقرية المنصورية المجاورة لماردين، القلعة الصامدة حتى اليوم في وجه كل التحديات. انتقلت عائلته إلى ماردين وسكنت فيها حتى نزوحهم إلى سورية بسبب الحروب هناك. والده يامين رزقو ووالدته شموني، وكانت عائلته كثيرة العدد إذ كان فيها أربعة أخوة وثلاث أخوات.
ترك أرض آبائه في تركيا وهو في سن العاشرة، وسافر إلى سورية ليسكن مع أخيه الكبير رزق الله، وبقي حتى مجيء كل أفراد عائلته. ذهب إلى العراق وهو في سن الـ /12/ أو /13/ من عمره لينضم إلى معهد مار يوحنا الحبيب الإكليريكي بإدارة الآباء الدومينيكان، وكان يضم الطلاب من الطائفتين الكلدانية والسريانية الكاثوليكية، على أمل أن يحقق أمنية عمه الخوري يوسف رزقو في أن يحمل رسالة الكهنوت من عائلته من بعده، وكان يكن له محبة واحتراماً وتقديراً، وبقي حتى آخر نسمة في حياته يردد اسمه ومآثره في مجالسه، عاد الإكليريكي ابراهيم يامين إلى الجزيرة بعد أربع سنوات من الدراسة، وقد أتقن اللغة الفرنسية، وتعلم كيف يكون منفتحاً على العالم والحياة، وبقي شغوفاً بالمطالعة حتى الأشهر الأخيرة من حياته.
عاش مع أخيه رزق الله وعائلته في زحلة ـ لبنان، حيث عمل في التجارة، وبعد سنتين شارك في بناء الدرباسية مع أخيه رزق الله وبعض العائلات القاطنة في قرية القره مانية. وعرف بين الناس بالشجاعة ورجاحة العقل، وكان دائماً يعتز ويفتخر كثيراً بأنه ينتمي إلى الدرباسية، وجذوره تمتد إلى المنصورية، ولهذا كان يشارك أفراح وأتراح أفراد عائلته وأبناء قريته، وكانوا هم أيضاً يفتخرون به ويعودون إليه في حل مشاكلهم.
عمل في شبابه مع أخيه في تجارة الأقمشة (الفاتورة) متنقلاً بين حلب والدرباسية، ثم اتجه كلياً إلى الزراعة، وبقي يعمل فيها حتى وفاته.
تزوج عام /1941/ من ابنة عمه مارين مقدسي اسحق رزقو، التي نزلت من ماردين إلى الدرباسية لزيارة الأهل، فتعرف إليها وتزوجها، وأنجب ثلاثة صبيان وأربعة بنات، وكوّن عائلة مسيحية ربّاهم على مخافة الله ومحبة الآخر، وكان هو دائماً مواظباً على واجباته الدينية حتى آخر رمق من حياته.
دخل لسنوات في المعترك السياسي، ففي عام /1959/ انتخب نائباً في الاتحاد القومي بتزكية ومحبة أهل بلدته. زار الأماكن المقدسة (القدس) في عام /1964/ هو وزوجته وبعض أصدقائه، وذلك أثناء زيارة قداسة البابا بولس السادس للمدينة المقدسة في تلك الزيارة التاريخية التي جمعته مع قداسة البطريرك المسكوني أثيناغوراس، وقد فتحا سفر المحبة بين روما والقسطنطينية، فكانت الزيارة بمثابة حج ولأخذ بركة البابا والبطريرك.
بعد عمل مستمر، وتعب كبير، وخدمات جليلة، ومواقف كثيرة في حقل الإخلاص، والمحبة، والعلاقات الطيبة، رقد بالرب بشيخوخة صالحة في الخامس من تشرين الثاني سنة /2007/ عن عمر يناهز السابعة والثمانين في مدينة حلب، فأقيم له مأتم كبير، شارك فيه المئات من أهله ومحبيه الذين تأثروا لفراقه، وبقوا يذكرون مآثره وأعماله ومواقفه المشهود لها من الجميع. ترأس صلاة تجنيزه سيادة المطران أنطوان شهدا رئيس أساقفة السريان الكاثوليك في حلب وذلك في كاتدرائية سيدة الانتقال، وأبّنه سيادته بكلمات مؤثرة، ومعبّرة عن محبته وتقديره لشخص الراحل الجليل.
كـلمة شـكــر
لا بد من الإشارة إلى أن الأستاذ عبدالحميد درويش عضو مجلس الشعب السابق قد كتب كلمة شكر، وكان هو الدافع الأكبر لإخراج هذا الكتاب وهذه هي كلمته :
بعد إنجاز كتاب : الدرباسية ماضياً وحاضراً، وطباعته، يهمني أن أشكر بالدرجة الأولى مؤلف الكتاب الصديق العزيز والغالي المرحوم ابراهيم يامين، الذي تعب جداً وأعدَّ كل هذه المعلومات في كتاب، ليتركه ذكرى عطرة لأبناء الدرباسية بشكل خاص، وكل أهالي الجزيرة بشكل عام.
كان يُحدِّثني عنه دائماً ويقول : أنه يلملم كل المعلومات ليضعها في هذا الكتاب. كنت أتمنى قبل أن يرحل عن هذا العالم أن تكتحل عيناه برؤية هذا الجهد الكبير الذي قدّمه في كتابه النفيس : الدرباسية ماضياً وحاضراً، وأقول لصديقي أبو بهنام وهو في جنات الخلد اليوم، لقد نفذّنا وصيتك، وها كتابك أصبح اليوم في عالم القرّاء، ومن سيقرأ سيشكر جهودك ويترحم عليك.
وأشكر أيضاً همة نيافة المطران مار غريغوريوس يوحنا ابراهيم متروبوليت حلب للسريان الأرثوذكس الصديق الذي لا ننسى فضله ومحبته لنا، ولمؤلف الكتاب، أنه تعب هو الآخر في قراءة النص وإعداده للطبع بشكل لائق، ونشره ضمن منشورات دار ماردين ليكون في منشورات هذه الدار التي أعطت الكتب الكثيرة للقرّاء، وأسأل الله أن يقوّيه ويجعله نبراساً للحق.
عبدالحميد درويش
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق