دور كردستان العراق في مسعى أكراد سوريا للحكم الذاتي
منذ أن سحب الرئيس بشار الأسد قواته الحكومية، والعلم الأخضر والأبيض والأحمر الذي تتوسطه شمس يرفرف عاليًا في المناطق الكردية في سوريا. في الواقع، هناك اتفاق ضمني بين الأسد وأكراد سوريا يعطي هؤلاء حرية التصرف شريطةَ ألاّ
يهاجموا دمشق. لقد ذاق أكراد سوريا طعم الحكم الذاتي منذ أن حرروا مدنهم، فمنعوا كلاًّ من القوات الحكومية والجيش السوري الحر من دخول أراضيهم. وهم في هذا يقتدون بكردستان العراق القوي المستقل الذي راح يبرز إلى الوجود منذ عام 1991، كما يستعدون لضمان حقوقهم في سوريا ما بعد الأسد. لكن هذه الفرصة يشوبها القلق. فنتيجةً للوساطة الدبلوماسية التي قادها رئيس كردستان العراق مسعود البارزاني، اتحدت أكبر الجماعات الكردية السورية (بعد تنافسٍ شديدٍ في السابق)، وهما المجلس الوطني الكردستاني وحزب الاتحاد الديمقراطي السوري، ليشكلا المجلس الكردي الأعلى، تمامًا كما فعلت الجماعات الكردية العراقية المتنافسة بعد حصولها على الحكم الذاتي. إلا أن الدعوات لقيام دولة "كردستان الكبرى" لعموم الأكراد -في سوريا والعراق- تظل منخفضة.
سيعرض هذا التقرير للمصالح الكردية العراقية في الكفاح الكردي السوري، وسيحاجج أنه في حين أن فكرة كردستان الكبرى لا تزال مجرد حلم قومي لدى عموم الأكراد، إلا أن القيادة الكردية العراقية، وتحديدًا الرئيس البارزاني، تلعب دور صانع الملوك، وتعمل على ضمان أن تكون كردستان السورية المستقلة صديقةً لأربيل.
ذِكرى الصدمة
يتضح الإهمال وآثاره حين يتجول المرء في المناطق الكردية السورية القاحلة. لقد اتسمتْ عقودٌ من حكم القومية العربية بالريبة من التطلعات الكردية. وهذا أدى إلى حظر تدريس اللغة الكردية، ومصادرة المطبوعات الكردية، ومنع الفن الكردي والموسيقى الكردية. وقد فُرِض المجتمعُ العربي، بثقافته ولغته، على الأكراد وهدد هويتهم الثقافية.
لقد كان من شأن تعداد أغسطس/آب 1962 سيئ الذِّكر في محافظة الحسكة الكردية السورية أن جرَّد مئة وخمسين ألف كردي عمليًا من الجنسية السورية بين عشية وضحاها، حيث عدَّهم أجانب. ثم جاء عهد حافظ الأسد، وهو عُروبي لا يلين، ليستمر العرب في ريبتهم واضطهادهم للأكراد وتهجيرهم قسريًا. ومع مطلع سبعينيات القرن العشرين، على سبيل المثال، بدأت دمشق تغير أسماء الأماكن من الكردية إلى العربية.
تأسس بعد ذلك "الحزام العربي"، وهو منطقة عسكرية على طول الحدود السورية مع تركيا (822 كم) والعراق (600 كم) في معظم أنحاء منطقة الجزيرة التي يهيمن عليها الأكراد. أُغري العرب بأنواع الدعم والقروض للاستقرار في هذا الحزام. وهذا أبعد الأكراد وحال بينهم وبين نظرائهم في تركيا والعراق، مما أضعف القومية الكردية إلى يومنا هذا.
إن ريبة حافظ الأسد من مواطنيه الأكراد لم تمنعه من دعم الجماعات الكردية المجاورة في تركيا والعراق، عندما كان ذلك في مصلحته. فرّ عبد الله أوجلان من تركيا سنة 1979، فافتتح حزبُه، حزب العمال الكردستاني، مكاتب ومخيمات له في سوريا. استمر هذا الوضع حتى تم التوصل إلى اتفاق بين أنقرة ودمشق سنة 1998. كان من شأن الحضور القوي لحركة المعارضة الكردية التركية أن يجد صدى لدى الأكراد السوريين الذين ارتبط كثيرٌ منهم بعلاقات مباشرة مع أكراد تركيا (كاستخدام اللهجة الكِرمنجية، والتزاوج بين سكان القرى الحدودية، والحركة التجارية القوية). وبالتالي، أصبح أوجلان أقوى رمزٍ بالنسبة إلى أكراد سوريا، وأدى في نهاية المطاف إلى إنشاء حزب الاتحاد الديمقراطي سنة 2003.
راقب أكراد سوريا نظراءهم العراقيين، في أعقاب إنشاء منطقة حظر الطيران عام 1991 والغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003، وهم ينتهجون سياسة حافة الهاوية ليُنشئوا نظام الفيدرالية العراقية الذي منح الأكراد حُكمًا ذاتيًا لا سابقة له. وقد شعرت القامشلي بما نتج عن هذا من اهتزازات عندما قام الأكراد السوريون بأعمال شغب في أثناء مباراةٍ لكرة القدم في مارس/آذار 2004، وأدى رد قوات أمن الأسد إلى مقتل 30 كرديًا وإصابة كثيرين غيرهم. لكن أكراد سوريا لم يجدوا فرصةً لتحقيق بعض المكاسب إلى أن حل "الربيع العربي" وضَعُف بشار الأسد وتزعزعت الدولة السورية. لذلك من الطبيعي أن يتطلعوا إلى تجربة الحكم الذاتي الكردي الوحيدة الناجحة المعروفة، كردستان العراق.
إنشاء كردستان سوريا
يبدو أن الاعتقاد الشائع والمدعوم تاريخيًا عن ضعف الحس القومي الكردي، ولاسيما بين أكراد العراق وسوريا، تعرض للتشكيك حين قرر (مسعود) البارزاني أن يدعم نضال الأشقاء في سوريا. لكن البراغماتية تَرْجَحُ كفَّتُها على أي شعورٍ قومي قوي. هذه الدينامية، المتجذرة في العلاقة بين أربيل وأنقرة، تستند إلى مخاطر المطامع وتعهُّد حكومة إقليم كردستان العراق لتركيا ألا تتجاوز حدودَها فيما يتعلق بأكراد تركيا المجاورة.
في السنوات القليلة الماضية، نمت ثقة تركيا بأربيل وأقام الجانبان شراكةً قويةً طويلةَ الأمد على أساس المصالح الاقتصادية (خط أنابيب النفط المتوقَّع)، والسياسية (إضعاف المالكي المدعوم من إيران). تتبنى القيادة الكردية العراقية سياسةً من شقين إزاء أكراد سوريا: احتواء الجماعات الكردية المناوئة (حزب العمال الكردستاني والمدافعين عنه)، وزيادة الضغط على بغداد وذلك من خلال دعم إسقاط الأسد الذي يدعمه المالكي. هناك أيضًا تخوف من زعزعة الاستقرار الذي تثيره حشود اللاجئين، حيث فر حتى الآن أكثر من 15 ألف كردي سوري إلى كردستان العراق.
سياسة الاحتواء
بمباركةٍ من أنقرة تقوم القيادة الكردية العراقية بتدريب الفارّين من الأكراد السوريين، لكي يعودوا لاحقًا إلى سوريا للعمل على إسقاط نظام الأسد، وهذا تحدٍ واضح لسياسة بغداد في عدم التدخل. في مقابلة هاتفية، وصف رئيس المجلس الوطني السوري، عبد الباسط سيدا، مسعود البارزاني بأنه "المرجعية" التي يتطلع إليها أكراد سوريا. وقد ظل سيدا، زعيم المعارضة السورية كلها، في أربيل منذ يوليو/تموز (2012) تحت رعاية البارزاني. ولكن حين دعا البارزاني سَلَف سيدا، العربيَّ السوري برهان غليون، لم تُسفر هذه الدعوة عن نتيجة مشابهة.
ينبع هذا من سلسلة الأحداث التي أبرزت تأثير البارزاني واهتمامه بكردستان سوريا؛ فهو الذي أشرف على تأسيس المجلس الوطني الكردستاني، وهو تحالف يضم 15 مجموعة كردية سورية، في أكتوبر/تشرين الأول 2011. وكان أكثر ما لفت الانتباهَ غيابُ حزب الاتحاد الديمقراطي عن هذا التحالف، ويرجع ذلك أساسًا إلى علاقات الحزب الوثيقة مع حزب العمال الكردستاني. ثم نظم البارزاني في يناير/كانون الثاني 2012 لقاءً في أربيل للمعارضة الكردية السورية، بحضور وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو، وغاب عنه مرةً أخرى حزبُ الاتحاد الديمقراطي. وقد زعم مصدر من حزب الاتحاد الديمقراطي للمؤلِفة أن البارزاني أمر مندوبي أكراد سوريا (الذين حصل كل منهم على مبلغ 10 آلاف دولار لحضوره) بمهاجمة نقاط التفتيش التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي، وذلك باستخدام أسلحة قادمة من تركيا، وباستخدام الدعاية ضدهم. بالنسبة إلى أكراد العراق، كان على حزب الاتحاد الديمقراطي أن يتبرأ من علاقاته مع حزب العمال الكردستاني قبل أن يحظى برعاية حكومة إقليم كردستان. ومع تراشق الاتهامات، اتضح أن سلطة حزب الاتحاد الديمقراطي وشرعيته على الأرض لا يمكن تجاهلهما. وهكذا، في 11 يوليو/تموز (2012)، توسط البارزاني للتوصل إلى اتفاق وحدة بين المجلس الوطني الكردي وحزب الاتحاد الديمقراطي تحت اسم المجلس الكردي الأعلى. وقد تم تأطير هذا الاتحاد قانونيًا في اتفاقية أربيل في يوليو/تموز 2012.
أربيل وأنقرة ووحدة المصالح
يجد كردستان العراق نفسه مرةً أخرى مضطرًا للموازنة بين علاقته القوية مع أنقرة والقومية الكردية. بَيْدَ أن من يُدقِّق في الأمور يَرَ جليةَ المنافع المتبادلة من هذه الاستراتيجية. فكل من أنقرة وأربيل تريد أن يكون لها دور فاعل في مستقبل الأكراد السوريين. فبالنسبة إلى أنقرة، لا يستطيع حزب العمال الكردستاني أن يستعيد قواعده في سوريا لزعزعة استقرار تركيا. ولعله صحيحٌ أن أكراد سوريا لا يرتاحون لتدخل تركيا (في دعم الجيش السوري الحر الذي يهيمن عليه السُّنة)، إلا أن التحالف مع أربيل سيسمح لأنقرة بلعب دور غير مباشر في ضمان ألا تقوم لحزب العمال الكردستاني قائمةٌ أخرى في سوريا. أما بالنسبة إلى أربيل، فلا يقتصر اهتمام الحزب الديمقراطي الكردستاني التابع للبارزاني على إقامة تحالف مع تركيا في مواجهة بغداد، ولكنه أيضًا عارض حزب العمال الكردستاني في الماضي، وكان من نتيجة ذلك أن قوات البشمركة التابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني قاتلوا إلى جانب تركيا ضد حزب العمال الكردستاني في تسعينيات القرن العشرين.
علاوةً على ذلك، تهدد هجمات حزب العمال الكردستاني داخل أراضي كردستان العراق سيادة أربيل وتزعزع أمنَ منطقةٍ تُبذل فيها جهودٌ حثيثة لإقناع المستثمرين أنها مستقرة. يزعم هيمن هَوْرامي، مسؤول العلاقات الخارجية في الحزب الديمقراطي الكردستاني، أن "زيارة وزير الخارجية التركي الأخيرة إلى أربيل أسفرت عن حوار إيجابي ومثمر مع الرئيس البارزاني ولاحقًا مع المجلس الوطني الكردي"، وهذه "مؤشرات على جهود حثيثة ومشتركة بين تركيا وإقليم كردستان من أجل الاستقرار الإقليمي".
مرجعية البارازاني
في اتفاق أربيل عام 2012، أدان حزب الاتحاد الديمقراطي تكتيكات العنف التي يتبعها حزب العمال الكردستاني، وتعهد بألا يعزِّز حزب العمال الكردستاني نفوذه في سوريا. ولدى البارزاني رغبة أخرى في أن يكون "المرجعية" لعموم الأكراد، منافسًا أوجلان على تلك المكانة. فبينما يتزعم البارزاني خمسة ملايين كردي عراقي، يتزعم أوجلان عشرين مليون كردي تركي. وهكذا فإن كردستان سوريا (ذات المليوني نسمة) والأقرب إلى كردستان العراق وتحت سلطة البارزاني يمكنها أن تكون العين الساهرة على نشاط حزب العمال الكردستاني وتزيد شرعية البارزاني عبر الحدود في آنٍ معًا. وهذا أيضًا يوقظ الحس القومي ويخاطب جماهير الأكراد العراقيين الذين سخط كثيرٌ منهم من القضايا الداخلية. يقول الدكتور عبد الحكيم بشار، القيادي في المجلس الوطني الكردستاني: "إن غالبية الشعب الكردي في سوريا تراه رمزًا وطنيًا عمل على توحيد الأحزاب الكردية من خلال اتفاق أربيل".
تكمن المشكلة إذن في كيفية تطبيق اتفاق أربيل واحتواء روابط حزب الاتحاد الديموقراطي التاريخية بحزب العمال الكردستاني. يقول د. سيمو، ممثل الشؤون الخارجية في حزب الاتحاد الديمقراطي: "إن تجربة كردستان العراق والفيدرالية لم تكن نموذجًا ناجحًا"، واستشهد بالخلافات مع بغداد والإفراط في الاعتماد على تركيا. ومع أن الفجوة بين أربيل وحزب الاتحاد الديمقراطي لا تزال موجودة حتى هذه اللحظة، إلا أن الحزب يواصل وقوفه وراء اتفاق الاتحاد وإدانته لحزب العمال الكردستاني. وعلى الرغم من أن اتفاق أربيل يفتقر إلى قرارات ملموسة بخصوص القيادة والتنظيم، إلا أن التهديد الخارجي الذي يمثله بشار الأسد وحَّد المجلس الوطني الكردستاني وحزب الاتحاد الديمقراطي. وعبد الباسط سيدا، رئيس المجلس الوطني السوري، واثق أن "البارزاني يمكن أن يكون له دور جيد وعليه أن يضغط على جميع الأطراف [الكردية] لبذل المزيد" من أجل الاتحاد. أما البارزاني فيؤكد أنه لن يتدخل مباشرة وأنه سيحترم ما يقوله الشعب.
القوة في مواجهة بغداد
أثار النزاع السوري نقطة خلاف أخرى بين أربيل وبغداد؛ فالمالكي المدعوم من إيران يعارض أي حِراكٍ إقليمي في مرحلة ما بعد الأسد تهدد فيه دمشقُ بزعامة السُّنة السلطةَ الشيعية في بغداد. أما الأكراد، الذين تحولوا نحو تركيا، فيشعرون بالقلق جرّاء توطيد المالكي سلطتَه المركزية على نحو مُخيف، ويرغبون في تغيير النظام في سوريا، وهو عكس ما تريده بغداد. وهذا أدى إلى مواجهة بين قوات البيشمركة وقوات الأمن العراقية في أواخر يوليو/تموز (2012) على طول الحدود مع سوريا. ترى بغداد أن أربيل تهدد سيادتها بإبرامها عقود نفط مستقلة (مع إكسون وتوتال وشي?رون وشركة غاز پروم... إلخ)، وتسهيلها هروب نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي، وباستخدامها قوات البيشمركة لكسب النفوذ في المناطق المتنازع عليها، وبسماحها مؤخرًا لوزير الخارجية التركي أن يزور كركوك من دون إخطار بغداد أولاً. لقد قرر مجلس الوزراء العراقي في الثالث من سبتمبر/أيلول (2012) أن المسؤولين الأجانب لا يمكن أن يدخلوا المدن العراقية (بما في ذلك إقليم كردستان) من دون موافقة بغداد. أما أربيل فترى أن المالكي يعزز حكمه الاستبدادي ولا يحترم الدستور أو بنود اتفاقية أربيل لعام 2010، بما في ذلك تنفيذ المادة 140 من الدستور. لهذا فهي الآن تنظر إلى تركيا بوصفها نصيرًا مهمًا ضد تهديدات بغداد.
ما تتصوره المعارضة الكردية السورية
تظل مطالب أكراد سوريا متواضعةً نسبيًا في الوقت الراهن حتى بعد مشاهدة جيرانهم أكراد العراق يكسبون حكمًا ذاتيًا لا سابقةَ له. لكن هاتين الحالتين تختلفان. فأكراد سوريا، بخلاف نظرائهم في العراق، ليست لديهم آلياتٌ مؤسسية ولا تاريخ من الكفاح المنظَّم، ولا عندهم قدوةٌ مثل مصطفى البارزاني أو عبد الله أوجلان. وهم يمثلون نسبةً ضئيلةً من السكان (تسعة في المئة)، كما أدى الفصلُ الممنهج إلى تشتيتهم. لذلك، فإن الحكم الذاتي أفقٌ جديد بالنسبة إليهم. مع ذلك، ينصبُّ مطلبهم الحالي على اللامركزية من غير أن يتجاوزوها إلى الفيدرالية. يريد أكراد سوريا أن تكون دمشق موحدة ولكن لا مركزية (وذلك لمنع قادة القومية العربية الأقوياء من تكرار التاريخ) بحيث يتمتع العلويون والدروز وغيرهم من الأقليات بحقوق متشابهة. ببساطة، إنْ تمكَّن أكراد سوريا من تدريس الكردية أو النشر باللغة الكردية في منابر الإعلام، هو انتصار بالنسبة إليهم.
لا شك أنه مع تواصل الحراك ستزداد المطالب، وخصوصًا إذا لم يحترم نظامٌ سُنُّي جديد (وربما إسلامي) في دمشق الأكراد السوريين أو يمنحهم ما يكفي من الحقوق. والسبب في هذا هو انعدام الثقة بأي نظام عربي، نظرًا لما كابدوه في الماضي. فعلى سبيل المثال، يعارض المجلس الكردي الأعلى أن تُدعى أي دولة جديدة باسم "الجمهورية العربية السورية"، ويفضِّل بدلاً من ذلك اسم "الجمهورية السورية المتحدة". ومن الآن تلوح دلائل على هشاشة المستقبل العربي-الكردي، ويمكن ملاحظة ذلك من توتر الأجواء التي أدت في نهاية المطاف إلى انسحاب المجلس الوطني الكردستاني من مؤتمر القاهرة يوم 2 يوليو/تموز (2012) لأن المعارضة العربية السورية رفضت إدراج مصطلح "الأمة الكردية". يحاجج د. حكيم، مرددًا نقطة سيدا، أن اللامركزية "هي أفضل صيغة لتحقيق الاستقرار في سوريا وإذا رُفِضَ هذا الخيار... فعلينا أن نتوقع أسوأ السيناريوهات في سوريا حتى بعد سقوط النظام". ويحذر الدكتور سيمو: "إذا لم تقبل سوريا الجديدة بالأكراد، فإنه ليس أمام هؤلاء من خيار سوى مُجاراة الأكراد الأتراك والعراقيين".
خاتمة
رغم أن النجاح الكردي السوري يشوبه القلق، إلا أن سيناريو يوم القيامة ليس نتيجةً حتميةً بالضرورة في الوقت الراهن. في الواقع، لا تزال القيادة متفائلة بقيام اللامركزية في ظل سوريا الموحدة. يؤكد عبد الباسط سيدا أن "المعارضة تصر على احترام حقوق الأقليات في سوريا، وتقول بصوت عال بأن مستقبل سوريا يجب أن يكون متحضرًا، استنادًا إلى أساس المواطنة". ولكن، كما بيَّن هذا التقرير، من شأن التاريخ المُرّ الراسخ في الأنظمة القومية العربية أن يوحد أطراف المعارضة الكردية السورية التي وجدت في أربيل راعيًا خارجيًا لها. وأربيل بدورها تود أن تكون كردستان سوريا في المستقبل مستقرةً ووديةً، وهي تعمل على تحقيق ذلك.
_______________________________________________
ريناد منصور - باحثة في معهد العراق للدراسات الاستراتيجية، وطالبة دكتوراه في جامعة كمبردج
ترجم المادة عن الإنجليزية: د. موسى الحالول
مركز الجزيرة للدراسات
منذ أن سحب الرئيس بشار الأسد قواته الحكومية، والعلم الأخضر والأبيض والأحمر الذي تتوسطه شمس يرفرف عاليًا في المناطق الكردية في سوريا. في الواقع، هناك اتفاق ضمني بين الأسد وأكراد سوريا يعطي هؤلاء حرية التصرف شريطةَ ألاّ
يهاجموا دمشق. لقد ذاق أكراد سوريا طعم الحكم الذاتي منذ أن حرروا مدنهم، فمنعوا كلاًّ من القوات الحكومية والجيش السوري الحر من دخول أراضيهم. وهم في هذا يقتدون بكردستان العراق القوي المستقل الذي راح يبرز إلى الوجود منذ عام 1991، كما يستعدون لضمان حقوقهم في سوريا ما بعد الأسد. لكن هذه الفرصة يشوبها القلق. فنتيجةً للوساطة الدبلوماسية التي قادها رئيس كردستان العراق مسعود البارزاني، اتحدت أكبر الجماعات الكردية السورية (بعد تنافسٍ شديدٍ في السابق)، وهما المجلس الوطني الكردستاني وحزب الاتحاد الديمقراطي السوري، ليشكلا المجلس الكردي الأعلى، تمامًا كما فعلت الجماعات الكردية العراقية المتنافسة بعد حصولها على الحكم الذاتي. إلا أن الدعوات لقيام دولة "كردستان الكبرى" لعموم الأكراد -في سوريا والعراق- تظل منخفضة.
سيعرض هذا التقرير للمصالح الكردية العراقية في الكفاح الكردي السوري، وسيحاجج أنه في حين أن فكرة كردستان الكبرى لا تزال مجرد حلم قومي لدى عموم الأكراد، إلا أن القيادة الكردية العراقية، وتحديدًا الرئيس البارزاني، تلعب دور صانع الملوك، وتعمل على ضمان أن تكون كردستان السورية المستقلة صديقةً لأربيل.
ذِكرى الصدمة
يتضح الإهمال وآثاره حين يتجول المرء في المناطق الكردية السورية القاحلة. لقد اتسمتْ عقودٌ من حكم القومية العربية بالريبة من التطلعات الكردية. وهذا أدى إلى حظر تدريس اللغة الكردية، ومصادرة المطبوعات الكردية، ومنع الفن الكردي والموسيقى الكردية. وقد فُرِض المجتمعُ العربي، بثقافته ولغته، على الأكراد وهدد هويتهم الثقافية.
لقد كان من شأن تعداد أغسطس/آب 1962 سيئ الذِّكر في محافظة الحسكة الكردية السورية أن جرَّد مئة وخمسين ألف كردي عمليًا من الجنسية السورية بين عشية وضحاها، حيث عدَّهم أجانب. ثم جاء عهد حافظ الأسد، وهو عُروبي لا يلين، ليستمر العرب في ريبتهم واضطهادهم للأكراد وتهجيرهم قسريًا. ومع مطلع سبعينيات القرن العشرين، على سبيل المثال، بدأت دمشق تغير أسماء الأماكن من الكردية إلى العربية.
تأسس بعد ذلك "الحزام العربي"، وهو منطقة عسكرية على طول الحدود السورية مع تركيا (822 كم) والعراق (600 كم) في معظم أنحاء منطقة الجزيرة التي يهيمن عليها الأكراد. أُغري العرب بأنواع الدعم والقروض للاستقرار في هذا الحزام. وهذا أبعد الأكراد وحال بينهم وبين نظرائهم في تركيا والعراق، مما أضعف القومية الكردية إلى يومنا هذا.
إن ريبة حافظ الأسد من مواطنيه الأكراد لم تمنعه من دعم الجماعات الكردية المجاورة في تركيا والعراق، عندما كان ذلك في مصلحته. فرّ عبد الله أوجلان من تركيا سنة 1979، فافتتح حزبُه، حزب العمال الكردستاني، مكاتب ومخيمات له في سوريا. استمر هذا الوضع حتى تم التوصل إلى اتفاق بين أنقرة ودمشق سنة 1998. كان من شأن الحضور القوي لحركة المعارضة الكردية التركية أن يجد صدى لدى الأكراد السوريين الذين ارتبط كثيرٌ منهم بعلاقات مباشرة مع أكراد تركيا (كاستخدام اللهجة الكِرمنجية، والتزاوج بين سكان القرى الحدودية، والحركة التجارية القوية). وبالتالي، أصبح أوجلان أقوى رمزٍ بالنسبة إلى أكراد سوريا، وأدى في نهاية المطاف إلى إنشاء حزب الاتحاد الديمقراطي سنة 2003.
راقب أكراد سوريا نظراءهم العراقيين، في أعقاب إنشاء منطقة حظر الطيران عام 1991 والغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003، وهم ينتهجون سياسة حافة الهاوية ليُنشئوا نظام الفيدرالية العراقية الذي منح الأكراد حُكمًا ذاتيًا لا سابقة له. وقد شعرت القامشلي بما نتج عن هذا من اهتزازات عندما قام الأكراد السوريون بأعمال شغب في أثناء مباراةٍ لكرة القدم في مارس/آذار 2004، وأدى رد قوات أمن الأسد إلى مقتل 30 كرديًا وإصابة كثيرين غيرهم. لكن أكراد سوريا لم يجدوا فرصةً لتحقيق بعض المكاسب إلى أن حل "الربيع العربي" وضَعُف بشار الأسد وتزعزعت الدولة السورية. لذلك من الطبيعي أن يتطلعوا إلى تجربة الحكم الذاتي الكردي الوحيدة الناجحة المعروفة، كردستان العراق.
إنشاء كردستان سوريا
يبدو أن الاعتقاد الشائع والمدعوم تاريخيًا عن ضعف الحس القومي الكردي، ولاسيما بين أكراد العراق وسوريا، تعرض للتشكيك حين قرر (مسعود) البارزاني أن يدعم نضال الأشقاء في سوريا. لكن البراغماتية تَرْجَحُ كفَّتُها على أي شعورٍ قومي قوي. هذه الدينامية، المتجذرة في العلاقة بين أربيل وأنقرة، تستند إلى مخاطر المطامع وتعهُّد حكومة إقليم كردستان العراق لتركيا ألا تتجاوز حدودَها فيما يتعلق بأكراد تركيا المجاورة.
في السنوات القليلة الماضية، نمت ثقة تركيا بأربيل وأقام الجانبان شراكةً قويةً طويلةَ الأمد على أساس المصالح الاقتصادية (خط أنابيب النفط المتوقَّع)، والسياسية (إضعاف المالكي المدعوم من إيران). تتبنى القيادة الكردية العراقية سياسةً من شقين إزاء أكراد سوريا: احتواء الجماعات الكردية المناوئة (حزب العمال الكردستاني والمدافعين عنه)، وزيادة الضغط على بغداد وذلك من خلال دعم إسقاط الأسد الذي يدعمه المالكي. هناك أيضًا تخوف من زعزعة الاستقرار الذي تثيره حشود اللاجئين، حيث فر حتى الآن أكثر من 15 ألف كردي سوري إلى كردستان العراق.
سياسة الاحتواء
بمباركةٍ من أنقرة تقوم القيادة الكردية العراقية بتدريب الفارّين من الأكراد السوريين، لكي يعودوا لاحقًا إلى سوريا للعمل على إسقاط نظام الأسد، وهذا تحدٍ واضح لسياسة بغداد في عدم التدخل. في مقابلة هاتفية، وصف رئيس المجلس الوطني السوري، عبد الباسط سيدا، مسعود البارزاني بأنه "المرجعية" التي يتطلع إليها أكراد سوريا. وقد ظل سيدا، زعيم المعارضة السورية كلها، في أربيل منذ يوليو/تموز (2012) تحت رعاية البارزاني. ولكن حين دعا البارزاني سَلَف سيدا، العربيَّ السوري برهان غليون، لم تُسفر هذه الدعوة عن نتيجة مشابهة.
ينبع هذا من سلسلة الأحداث التي أبرزت تأثير البارزاني واهتمامه بكردستان سوريا؛ فهو الذي أشرف على تأسيس المجلس الوطني الكردستاني، وهو تحالف يضم 15 مجموعة كردية سورية، في أكتوبر/تشرين الأول 2011. وكان أكثر ما لفت الانتباهَ غيابُ حزب الاتحاد الديمقراطي عن هذا التحالف، ويرجع ذلك أساسًا إلى علاقات الحزب الوثيقة مع حزب العمال الكردستاني. ثم نظم البارزاني في يناير/كانون الثاني 2012 لقاءً في أربيل للمعارضة الكردية السورية، بحضور وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو، وغاب عنه مرةً أخرى حزبُ الاتحاد الديمقراطي. وقد زعم مصدر من حزب الاتحاد الديمقراطي للمؤلِفة أن البارزاني أمر مندوبي أكراد سوريا (الذين حصل كل منهم على مبلغ 10 آلاف دولار لحضوره) بمهاجمة نقاط التفتيش التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي، وذلك باستخدام أسلحة قادمة من تركيا، وباستخدام الدعاية ضدهم. بالنسبة إلى أكراد العراق، كان على حزب الاتحاد الديمقراطي أن يتبرأ من علاقاته مع حزب العمال الكردستاني قبل أن يحظى برعاية حكومة إقليم كردستان. ومع تراشق الاتهامات، اتضح أن سلطة حزب الاتحاد الديمقراطي وشرعيته على الأرض لا يمكن تجاهلهما. وهكذا، في 11 يوليو/تموز (2012)، توسط البارزاني للتوصل إلى اتفاق وحدة بين المجلس الوطني الكردي وحزب الاتحاد الديمقراطي تحت اسم المجلس الكردي الأعلى. وقد تم تأطير هذا الاتحاد قانونيًا في اتفاقية أربيل في يوليو/تموز 2012.
أربيل وأنقرة ووحدة المصالح
يجد كردستان العراق نفسه مرةً أخرى مضطرًا للموازنة بين علاقته القوية مع أنقرة والقومية الكردية. بَيْدَ أن من يُدقِّق في الأمور يَرَ جليةَ المنافع المتبادلة من هذه الاستراتيجية. فكل من أنقرة وأربيل تريد أن يكون لها دور فاعل في مستقبل الأكراد السوريين. فبالنسبة إلى أنقرة، لا يستطيع حزب العمال الكردستاني أن يستعيد قواعده في سوريا لزعزعة استقرار تركيا. ولعله صحيحٌ أن أكراد سوريا لا يرتاحون لتدخل تركيا (في دعم الجيش السوري الحر الذي يهيمن عليه السُّنة)، إلا أن التحالف مع أربيل سيسمح لأنقرة بلعب دور غير مباشر في ضمان ألا تقوم لحزب العمال الكردستاني قائمةٌ أخرى في سوريا. أما بالنسبة إلى أربيل، فلا يقتصر اهتمام الحزب الديمقراطي الكردستاني التابع للبارزاني على إقامة تحالف مع تركيا في مواجهة بغداد، ولكنه أيضًا عارض حزب العمال الكردستاني في الماضي، وكان من نتيجة ذلك أن قوات البشمركة التابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني قاتلوا إلى جانب تركيا ضد حزب العمال الكردستاني في تسعينيات القرن العشرين.
علاوةً على ذلك، تهدد هجمات حزب العمال الكردستاني داخل أراضي كردستان العراق سيادة أربيل وتزعزع أمنَ منطقةٍ تُبذل فيها جهودٌ حثيثة لإقناع المستثمرين أنها مستقرة. يزعم هيمن هَوْرامي، مسؤول العلاقات الخارجية في الحزب الديمقراطي الكردستاني، أن "زيارة وزير الخارجية التركي الأخيرة إلى أربيل أسفرت عن حوار إيجابي ومثمر مع الرئيس البارزاني ولاحقًا مع المجلس الوطني الكردي"، وهذه "مؤشرات على جهود حثيثة ومشتركة بين تركيا وإقليم كردستان من أجل الاستقرار الإقليمي".
مرجعية البارازاني
في اتفاق أربيل عام 2012، أدان حزب الاتحاد الديمقراطي تكتيكات العنف التي يتبعها حزب العمال الكردستاني، وتعهد بألا يعزِّز حزب العمال الكردستاني نفوذه في سوريا. ولدى البارزاني رغبة أخرى في أن يكون "المرجعية" لعموم الأكراد، منافسًا أوجلان على تلك المكانة. فبينما يتزعم البارزاني خمسة ملايين كردي عراقي، يتزعم أوجلان عشرين مليون كردي تركي. وهكذا فإن كردستان سوريا (ذات المليوني نسمة) والأقرب إلى كردستان العراق وتحت سلطة البارزاني يمكنها أن تكون العين الساهرة على نشاط حزب العمال الكردستاني وتزيد شرعية البارزاني عبر الحدود في آنٍ معًا. وهذا أيضًا يوقظ الحس القومي ويخاطب جماهير الأكراد العراقيين الذين سخط كثيرٌ منهم من القضايا الداخلية. يقول الدكتور عبد الحكيم بشار، القيادي في المجلس الوطني الكردستاني: "إن غالبية الشعب الكردي في سوريا تراه رمزًا وطنيًا عمل على توحيد الأحزاب الكردية من خلال اتفاق أربيل".
تكمن المشكلة إذن في كيفية تطبيق اتفاق أربيل واحتواء روابط حزب الاتحاد الديموقراطي التاريخية بحزب العمال الكردستاني. يقول د. سيمو، ممثل الشؤون الخارجية في حزب الاتحاد الديمقراطي: "إن تجربة كردستان العراق والفيدرالية لم تكن نموذجًا ناجحًا"، واستشهد بالخلافات مع بغداد والإفراط في الاعتماد على تركيا. ومع أن الفجوة بين أربيل وحزب الاتحاد الديمقراطي لا تزال موجودة حتى هذه اللحظة، إلا أن الحزب يواصل وقوفه وراء اتفاق الاتحاد وإدانته لحزب العمال الكردستاني. وعلى الرغم من أن اتفاق أربيل يفتقر إلى قرارات ملموسة بخصوص القيادة والتنظيم، إلا أن التهديد الخارجي الذي يمثله بشار الأسد وحَّد المجلس الوطني الكردستاني وحزب الاتحاد الديمقراطي. وعبد الباسط سيدا، رئيس المجلس الوطني السوري، واثق أن "البارزاني يمكن أن يكون له دور جيد وعليه أن يضغط على جميع الأطراف [الكردية] لبذل المزيد" من أجل الاتحاد. أما البارزاني فيؤكد أنه لن يتدخل مباشرة وأنه سيحترم ما يقوله الشعب.
القوة في مواجهة بغداد
أثار النزاع السوري نقطة خلاف أخرى بين أربيل وبغداد؛ فالمالكي المدعوم من إيران يعارض أي حِراكٍ إقليمي في مرحلة ما بعد الأسد تهدد فيه دمشقُ بزعامة السُّنة السلطةَ الشيعية في بغداد. أما الأكراد، الذين تحولوا نحو تركيا، فيشعرون بالقلق جرّاء توطيد المالكي سلطتَه المركزية على نحو مُخيف، ويرغبون في تغيير النظام في سوريا، وهو عكس ما تريده بغداد. وهذا أدى إلى مواجهة بين قوات البيشمركة وقوات الأمن العراقية في أواخر يوليو/تموز (2012) على طول الحدود مع سوريا. ترى بغداد أن أربيل تهدد سيادتها بإبرامها عقود نفط مستقلة (مع إكسون وتوتال وشي?رون وشركة غاز پروم... إلخ)، وتسهيلها هروب نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي، وباستخدامها قوات البيشمركة لكسب النفوذ في المناطق المتنازع عليها، وبسماحها مؤخرًا لوزير الخارجية التركي أن يزور كركوك من دون إخطار بغداد أولاً. لقد قرر مجلس الوزراء العراقي في الثالث من سبتمبر/أيلول (2012) أن المسؤولين الأجانب لا يمكن أن يدخلوا المدن العراقية (بما في ذلك إقليم كردستان) من دون موافقة بغداد. أما أربيل فترى أن المالكي يعزز حكمه الاستبدادي ولا يحترم الدستور أو بنود اتفاقية أربيل لعام 2010، بما في ذلك تنفيذ المادة 140 من الدستور. لهذا فهي الآن تنظر إلى تركيا بوصفها نصيرًا مهمًا ضد تهديدات بغداد.
ما تتصوره المعارضة الكردية السورية
تظل مطالب أكراد سوريا متواضعةً نسبيًا في الوقت الراهن حتى بعد مشاهدة جيرانهم أكراد العراق يكسبون حكمًا ذاتيًا لا سابقةَ له. لكن هاتين الحالتين تختلفان. فأكراد سوريا، بخلاف نظرائهم في العراق، ليست لديهم آلياتٌ مؤسسية ولا تاريخ من الكفاح المنظَّم، ولا عندهم قدوةٌ مثل مصطفى البارزاني أو عبد الله أوجلان. وهم يمثلون نسبةً ضئيلةً من السكان (تسعة في المئة)، كما أدى الفصلُ الممنهج إلى تشتيتهم. لذلك، فإن الحكم الذاتي أفقٌ جديد بالنسبة إليهم. مع ذلك، ينصبُّ مطلبهم الحالي على اللامركزية من غير أن يتجاوزوها إلى الفيدرالية. يريد أكراد سوريا أن تكون دمشق موحدة ولكن لا مركزية (وذلك لمنع قادة القومية العربية الأقوياء من تكرار التاريخ) بحيث يتمتع العلويون والدروز وغيرهم من الأقليات بحقوق متشابهة. ببساطة، إنْ تمكَّن أكراد سوريا من تدريس الكردية أو النشر باللغة الكردية في منابر الإعلام، هو انتصار بالنسبة إليهم.
لا شك أنه مع تواصل الحراك ستزداد المطالب، وخصوصًا إذا لم يحترم نظامٌ سُنُّي جديد (وربما إسلامي) في دمشق الأكراد السوريين أو يمنحهم ما يكفي من الحقوق. والسبب في هذا هو انعدام الثقة بأي نظام عربي، نظرًا لما كابدوه في الماضي. فعلى سبيل المثال، يعارض المجلس الكردي الأعلى أن تُدعى أي دولة جديدة باسم "الجمهورية العربية السورية"، ويفضِّل بدلاً من ذلك اسم "الجمهورية السورية المتحدة". ومن الآن تلوح دلائل على هشاشة المستقبل العربي-الكردي، ويمكن ملاحظة ذلك من توتر الأجواء التي أدت في نهاية المطاف إلى انسحاب المجلس الوطني الكردستاني من مؤتمر القاهرة يوم 2 يوليو/تموز (2012) لأن المعارضة العربية السورية رفضت إدراج مصطلح "الأمة الكردية". يحاجج د. حكيم، مرددًا نقطة سيدا، أن اللامركزية "هي أفضل صيغة لتحقيق الاستقرار في سوريا وإذا رُفِضَ هذا الخيار... فعلينا أن نتوقع أسوأ السيناريوهات في سوريا حتى بعد سقوط النظام". ويحذر الدكتور سيمو: "إذا لم تقبل سوريا الجديدة بالأكراد، فإنه ليس أمام هؤلاء من خيار سوى مُجاراة الأكراد الأتراك والعراقيين".
خاتمة
رغم أن النجاح الكردي السوري يشوبه القلق، إلا أن سيناريو يوم القيامة ليس نتيجةً حتميةً بالضرورة في الوقت الراهن. في الواقع، لا تزال القيادة متفائلة بقيام اللامركزية في ظل سوريا الموحدة. يؤكد عبد الباسط سيدا أن "المعارضة تصر على احترام حقوق الأقليات في سوريا، وتقول بصوت عال بأن مستقبل سوريا يجب أن يكون متحضرًا، استنادًا إلى أساس المواطنة". ولكن، كما بيَّن هذا التقرير، من شأن التاريخ المُرّ الراسخ في الأنظمة القومية العربية أن يوحد أطراف المعارضة الكردية السورية التي وجدت في أربيل راعيًا خارجيًا لها. وأربيل بدورها تود أن تكون كردستان سوريا في المستقبل مستقرةً ووديةً، وهي تعمل على تحقيق ذلك.
_______________________________________________
ريناد منصور - باحثة في معهد العراق للدراسات الاستراتيجية، وطالبة دكتوراه في جامعة كمبردج
ترجم المادة عن الإنجليزية: د. موسى الحالول
مركز الجزيرة للدراسات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق